6/12/2015

تطوّر السّياسات الإقتصاديّة

 سنة بعد سنة ، تطغى المعطيات الإقتصاديّة على الخطاب السّياسي .

فمن تخصص غامض ، كان يمثّل حكرا على ثلّة من الخبراء ، إرتفت السّياسة الإقتصاديّة لتصبح هي محور الحملات الإنتخابيّة الحديثة . وصار الزّعماء الّسياسيون يكيلون الضّربات لخصومهم دون كلل ، بأرقامهم التي لا ''تقبل الجدل'' ، ويلوّحون بإنتظام و بنوعيّة الإجراءات الّتي سيطبّقونها ، إذا ما تمّ إنتخابهم .
فماهو مفهوم السّياسة الإقتصاديّة ؟ لما تطبّق ؟ وماهي آليات ذلك ؟

مفهوم السّياسة الإقتصاديّة : 


إذا كانت المناقشات حول السّياسة الإقتصاديّة حادّة ومتناقضة ، فإنّ ذلك يرجع إلى كوها مادّة حديثة العهد . وبالفعل فإنّ السّياسات الإقتصاديّة الجديرة بهذا الإسم لم تظهر إلى الوجود إلى في نهاية الحرب العالميّة الثّانية . 

يمكن أن نعرّف السّياسة الإقتصاديّة بأنّها '' مجموعة من قرارات متّسقة ، إتّخذتها السّلطات العموميّة ، ترمي بشتّى الوسائل إلى بلوغ أهداف إقتصاديّة في مدى زمني بعيد أو قريب '' . 

فقبل الحرب ، كان ''النيو ديل'' أو الصفقة الجديدة New deal ، وهو البرنامج الذي أطلقته الولايات المتّحدة الأمريكية إثر الكساد الكبير، المثال الأوحد الذي يمكن أن نطلق عليه مصطلح سياسة إقتصاديّة . 

أمّ السّياسات الإقتصاديّة العصريّة فلم تر النّور إلّا في الوقت الّذي إتّضح فيه أنّ أدوات المعرفة الإقتصاديّة أصبحت موثوقة و مكتملة بما فيه الكفاية . 
وفي هذا الإطار كان الإزدهار الذي عرفته في الخمسينات ، المحاسبة الوطنيّة - المنبثقة مباشرة من خطّ التّفكير الكينزّي ، قد أدّى إلى انعطافة حاسمة . 
فمنذ ذلك الحين ، أدّت الثّورة الباهرة للجهاز الإحصائيّ في البلدان المتقدّمة ، إلى إضافة المزيد من الدّقّة على السّياسات الإقتصاديّة . 

ماهي أهداف السّياسة الإقتصاديّة : 


بالمعنى الدّقيق للكلمة ، ليس هناك إلّا هدف واحد للسياسة الإقتصاديّة ، وهو ضمان إزدهار البلد وسكّانه . وهنا نصطدم بأوّل حاجز : كيف يمكن تقييم وعقلنة مفهوم له من الحركيّة بقدر ما لمفهوم الثّراء والرّفاهية ؟ 
لكن لقياس ثراء لبد ما فإنّ المؤشّر العالميّ الوحيد ، هو النّاتج الوطنيّ الإجماليّ للفرد
وبالتّالي فإنّ الإستنتاج الأساسي يبقى هو أنّ الهدف الوحيد والمعقولة لأيّ سياسة إقتصاديّة يجب أن يكون هو ، الزّيادة في الإنتاج القومي الدّاخليّ ، وتقاس هذه الزّيادة في النّاتج القومي ، بما يسمّى بنسبة النّمو
هكذا حاولت جميع الحكومات ، في الخمسينات والسّتينات ، أن تؤثّر على نسبة النّمو هاته ، وتلوّح بها كتعبير عن نجاحها . 

غير أن بساطة هذا الإستدلال ، ليست للأسف إلّا ظاهريّة . فللحفاظ آجلا ، على آفاق تنمية ، يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار القيود الملازمة للآليات الإقتصاديّة . وبالتّالي لا يمكن إعتبار رفع الناتج الداخلي الخام الهدف الأوحد ، بل يمكن أن تضاف إليه أهداف أخرى ، تتعلّق بالتّقليص من القيود الّتي تكبّل الإقتصاد . لذا وفي أغلب الأحين تتحوّل ''الأهداف الإيجابية'' إلى ''أهداف سلبيّة'' ، بمعنى عوض العمل على تحقيق هدف ، تعمل السّياسة الإقتصادية على الحلول دون حصول ما يعيق النّمو الإقتصاديّ . 
ومن تلك الأهداف مثلا ''الحيلولة دون التّضخّم'' ، و''الحدّ من البطالة'' ، و ''تقليص عجز الميزان التّجاريّ''..إلخ . 

كما أنّ الفرق بين الأهداف والوسائل غير واضح وضوحا تامّا ، فالنّمو الذي هو الهدف الأساسيّ يمكن أن يتحوّل إلى أداة ظرفيّة ، مثل أن نحدّ من نسبة النّمو اليوم ، لنتمكّن من رفعه غدا. 
وهذا التّناقض الظّاهر يعود إلى ما يسمّى بالتّاثيرات الإنحرافيّة

التّأثيرات الإنحرافيّة :


ترتبط الآليات الإقتصاديّة بعضها ببعض ، ومن هنا يطرح مشكل إتّساق السّياسات الإقتصاديّة ، بسبب إستحالة التّأثير على عامل إقتصاديّ ، دون التّأثير على عوامل أخرى . 
وبذلك تظهر التّأثيرات الإنحرافيّة الفاعلة  ، وهذا مثال على ذلك : عند وصول رونالد ريغن إلى الحكم سنة 1980 ، قرّر خلق جوّ من الثّقة في الولايات المتّحدة الأمريكية ، وكان من بين الإجراءات الأولى الّتي قام بإتخاذها ، في إطار سياسته الإقتصاديّة ، هو الرّفع من أسعار الفائدة
وكانت النّتيجة المباشرة لذلك ، تدفّق الرّساميل الدّولية على الولايات المتحدة ، للإستثمار في الإقتصاد الأمريكي و للتّمتّع بنسب الفائدة المرتفعة . ويتمّ هذا الإستثمار بالدّولار الأمريكي بطبيعة الحال . 
وهكذا إستفادت المقاولات بشكل واسع من تدفّق الرّساميل ، لكن بموازاة ذلك ، أدّى التّلهّف المفاجئ على الدّولار ، إلى جعل قيمة العملة الأمريكية ترتفع إلى مستويات قياسيّة -نتيجة لإرتفاع الطّلب - . 
وعلى الفور إستطاعت المنتوجات الأجنبيّة - وخصوصا منها اليابانيّة لأنّها الأكثر قدرة على المنافسة - من أن تجتاح السّوق الأمريكيّة ، وعرّضت النّمو للخطر ، فاضطرّت السّلطات إلى تخفيض اسعار الفائدة . 

وهكذا فإنّ هذا النّوع من التّاثير الإنحرافيّ ، يتسبّب في مخاطر تضارب الأهداف ، مادام يفرض التذضحية بهدف معيّن ، لصالح هدف آخر ، تبعا للإختيارات السّياسيّة الظّرفيّة ، ونتيجة للضّغوط الكبرى في فترات الأزمات والّتي تطلّب تدخّلا حاسما ولو كان ''مؤلما'' . 

وقد عرفت فرنسا بدورها ، إنطلاقا من العام 1982 ، في عهد حكومتي موروا و فابيوس  ، وضعا مماثلا . 
إذ إقتضت المصلحة أن تكون هناك تضحية بهدف التّخفيض من البطالة ، لصالح التّقليص من التّضخّم  ، على أساس أنّ التّأثير على التّشغيل لا يمكن أن يمرّ إلّا عبر سياسة للتّنمية ، وعبر حقن سيولات نقديّة ، وبالتّالي عبر عامل التّضخّم . 
وهكذا فإنّ التّضخّم يلحق الضّرر بميزان الأداءات ، كما أنّ أنواع العجز تقود إلى صرامة في الميزانية ، وهي صرامة تفاقم من وضع البطالة . وكلّ هذه الحلقات المفرغة هي من مميزات الإقتصاد الحديث . 

إضافة إلى ذلك ، كثيرا ما تبرز تناقضات في الأهداف بين دول مختلفة . إذ دون الحديث عن التّنافس ، يمكن أن تظهر فجأة في بلد ما ، صعوبات غير مقصودة ، ناجمة عن السّياسة المطبّقة في بلد آخر . 
وهكذا إذا كان هدف ألمانيا هو محاربة التّضخّم ، فإنّ ستطبّق سياسة ذات قيود ، الشّيئ الّذي سيضايق الصّادرات الفرنسيّة . 

ويمكن أن يبرز التّضارب في الأهداف بين الحاضر و المستقبل ، حيث يكون كبح النّشاط الإقتصاديّ ، لضمان إستقرار الاسعار على المدى القصير ، معرقلا للنّمو على المدى الطّويل . وذلك بالقدر الذي تكون فيه تنمية الإستثمارات ، خلال هذه المدّة ، غير كافية لضمان الاسس الماديّة لنمو لاحق . بل وأهمّ من ذلك ، فإنّ تحقيق هدف معيّن على المدى القصير ، يمكن أن يؤدّي إلى حدوث بعض الأضرار على المدى الطّويل . 

ماهي أدوات السّياسة الإقتصاديّة : 


بالإضافة إلى أدوات المعرفة مثل المحاسبة الوطنيّة ، ومختلف المؤشّرات والتّحريّات التي تسمح بتحديد ومراقبة تنفيذ السّياسة الإقتصاديّة ، فإنّ السّلطات العموميّة ، تتوّفر على مجموعة من أدوات التّدخّل . 

ومن بين هذه الأدوات نجد سياسة تدبير الميزانيّة ، الّتي تغطّي الأعمال المتعلّقة بالنّفقات و المداخيل . 
وتمارس الميزانيات العمومية في البلدان المتقدمة ، تأثيرا حاسما على الحياة الإقتصاديّة ، إذ تتراوح بين 25 و 50 بالمائة من النّاتج الوطني . ونتيجة لذلك فإنّ أدنى تأثير على هذه الميزانيات قد يخلّف آثارا على مجموع التّدفّقات الإقتصاديّة . 

أمّا الأداة المهمّة الأخرى ، التي تتوفّر عليها الحكومات ، فهي السّياسة النّقديّة . وتعلّق هذه الأخيرة ، على الخصوص، بتعديل السّيولة الإجماليّة للإقتصاد ، أو بعبارة أخرى ، بتسيير وسائل الأداء إلى هذا الحد أو ذاك . ومن الممكن أن يمثّل هذا الإجراء تأثيرا مباشرا على الكتلة النّقديّة ، مثل قيام البنك المركزيّ بصكّ النّقود ، أو تغيير مخزونات الذّهب والعملات الأجنبيّة ، أو بإجراء غير مباشر ، وهو الأسلوب المفضّل عموما ، وذلك عن طريق أسعار الفائدة
وتبقى الخطّة دائما هي نفسها ، إذ يغيّر البنك المركزي سعر ما يسمّى بإعادة الخصم ، الذي يأخذ بهّ من الدّائنين الحقوق القصيرة الأمد الّتي تقدّمها البنوك ، فيؤثّر بذلك على مجموع الأسعار التي تتعامل بها هذه الأبناك مع زبائنها . 

وأخيرا يمكن أن تستخدم السّلطات العموميّة ، أنواعا أخرى من التّدخّل ، أكثر مباشرة ، كالتّكافؤ النّقديّ ، والأسعار والمداخيل..إلخ . 

لقد كان مبدأ تشغيل الجميع كان هو المهيمن خلال خمسينات القرن الماضي
غير أنّ الأزمة التي عرفتها السّبعينات قد أدّت إلى إعادة النّظر في هذا المبدأ

كيف تطوّرت السّياسة الإقتصاديّة : 


إنّ تقلّبات النّشاط الإقتصاديّ منذ نهاية الحرب ، قد دفعت الخبراء إلى مراجعة نظرياتهم الظّرفيّة مراجعة كاملة . وكان أغلب الملاحظين مقتنعين ، بأن الإقتصادات الرّأسمالية ستخضع من جديد ، بعد إنتهاء عمليّة إعادة البناء ، للدّورة الّتي لا مفرّ منها ، والمتميّزة بأطوار نموّ سريع تليها أطوار نشاط بطيئ ، ولكنّ شيئا من ذلك لم يحدث . 
فإلى حدود السّبعينات إستطاعة دول منظمة التّعاون و التّنمية الإقتصاديّة ، أن تستفيد من نمو سريع و متوازن ، إذ بلغ نحو 5 بالمائة سنويا ، وكانت هناك ثلاثة اسباب لهذا الإزدهار الإقتصاديّ : 
 الطّفرة الصّغيرة '' Baby boom '' لما بعد الحرب ، التي أنعشت الإستهلاك ، وفتح الحدود الذي حفّز الإستثمارات ، والدّعم والضّغط الذي مارسته السّياسة الإقتصاديّة . 

وبصفة إجماليّة ، فإنّ هذه الفترة إتّسمت بنمو سريع ضمن التّشغيل الكامل لليد العاملة ، ورفع بشكل ملحوظ مستوى العيش ، مع تضخّم ضئيل جدّا ، ولكن مع إختلالات مستديمة بالنّسبة إلى الماليات العموميّة ، وموازين الأداءات ، وهي إختلالات لم تنجم عنها عواقب خطيرة . 

وقد واجهت الدّول الغربيّة مشكلة البطالة في نهاية الأربعينيات ، وبداية الخمسينات ، وتمّ حلّ هذا المشكل بسرعة في معظم الدّول ، بإستثناء كندا والولايات المتحدة الأمريكيّة ، والّتي بغ فيها عدد العاطلين 7 بالمائة عند وصول كينيدي إلى السّلطة . 
أمّا في أواسط السّتينات فقد كانت جميع دول منظمة التّعاون و التّنمية الإقتصاديّة  توجد في وضعيّة التّشغيل الكاملّ المعمّم . بل و أحيانا في حالات فرط التّشغيل ، في الوقت الذي كانت فيه الدّول الأقل تنمية ، مثل إسبانيا ، تحارب البطالة ينمو داخليّ قويّ ، وفي الوقت نفسه ، بهجرة كثيفة نحو البلدان التي كانت تعاني من نقص في اليد العاملة كألمانيا وفرنسا . 

وقد أدّى هذا النّمو المنتظم إلى تحريك مفرط للآلية الإقتصاديّة . حدث هذا في فرنسا سنتي 1963 و 1964 . إذ خلال هذه الفترة كانت الأوضاع الموسومة بالتّضخّم أكثر عددا وأشدّ خطورة من الأوضاع الموسومة بالنّكوص . 
ولم يكن امام فرنسا إزاء ذلك إلّا أن تقوم بإعادة تقويم محدودة .
والمثال الأكثر إقناعا بالنّسبة إلى سياسة محاربة النّكوص ، هو بدون شكّ ، الإنعاش الّذي قامت به ، في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل فعّال ، إدارة كينيدي ثم إدارة جونسون ، خلال السّنوات 61-65.
أمّا في فرنسا فقد كان مخطّط دبري سنة 1968 ، يرمي كذلك إلى إنعاش الإقتصاد.

هكذا إعتمدت سياسة محاربة التّضخّم بشكل أوسع . ولأجل ذلك لم تبني إجراءات لكبح الطّلب عن طريق إبطاء إيقاع تصاعد النّفقات العموميّة ، وتقنين منح القنوع ، من أجل تشجيع الإدّخار عوض عنه .

لكنّ جميع هذه السّياسات كانت تباشر دائما عبر لمسات خفيفة ، ولذلك كانت تحرز في الغالب نتائج إجابيّة ، وهو أمر لم يحصل في السّبعينات ، لأنّ التّدخّلات المكثّفة لم يعد بإمكانها ضمان نجاح السّياسة الإقتصاديّة .

غير أنّ هذه النّتائج الإجابيّة تخفي ثغرات خطيرة ، فالحكومات التي كانت منشغلة بإصلاحات تراهن على الأمد القصير جدا ، لم تلاحظ بروز مشاكل في العمق .
وبالفعل فإنّ الإقتصادات الغربيّة لم تنتقل بين عشيّة وضحاها نحو حالة الكساد .
وأزمة النّفط كانت الكاشف عن ذلك أكثر ممّا كانت سببا له . ولذلك فإنّ هذه الثّغرات قد تفاقمت سنة 1973 ، الأمر الذي فرض إدخال تغييرات في العمق على المفاهيم المتعلّقة بالسّياسة الإقتصاديّة .

أوجه التّغيير :


بعد حرب أكتوبر ، تسبب إعلان الدّول المنتجة للنّفط عن حظر جزئيّ في حدوث صدمة حقيقيّة . وقد كانت مجرّد صدمة نفسيّة ، لأنّ الحظر المذكور لم يؤدّ إلى صعوبات حقيقيّة في التّزوّد بالنّفط . أمّا ماهو أخطر من ذلك ، فقد تجلّى في الزّيادة في أسعار النّفط ، الّتي قرّرتها منظمة الدّول المصدّرة للّنفط  . ففي نهاية سنة 1974 ، كان ثمن البرميل الواحد قد تضاعف أربع مرّات بالنّسبة إلى جانفي -يناير- من العام 1973 .

وقد أخضعت هذه الفاتورة البتروليّة الباهظة مداخيل دول منظمة التّعاون و التّنمية الإقتصاديّة  إلى نقص ملحوظ ، بلغ حوالي 2 بالمائة من النّاتج الوطني الإجماليّ .
وكان أوّل أثر لذلك هو الإختلال الكبير في ميزان الأداءات بالنّسبة إلى معظم الدّول الغربيّة ، بإستثناء الولايات المتّحدة وألمانيا .
ومع ذلك لم تكن الكتلة الضّخمة من هذه الموارد الإضافيّة تعود إلّا جزئيّا إلى الدّول المصدّرة .
وذلك بفعل عتبة ناتجة عن تشبّع لا مناص منه ، كانت قد وصلته واردات بعض دول  منظمة الدّول المصدّرة للّنفط ، ولهذه الفترة يعود تاريخ خلق رساميل ضخمة عائمة ، تعرف بالبرتودولار .

لقد إنضاف إرتفاع سعر النّفط إلى وعضيّة التنشيط الإقتصاديّ المفرط . الشّيئ الذي رفع نسبة التّضخّم بشكل متزايد . فقد سجّلت بعض الدّول في سنة 1975 ، نسبا تتجاوز الـ 20 بالمائة ، بعد أن فاقمت الصّدمة النّفطيّة نكوصا كان قد بدأ من قبل . إذ بينما طان معدّل نمو الناتج الدّاخلي القومي الخام بالنّسبة إلى دول منظمة التّعاون و التّنمية الإقتصاديّة قد وصل إلى 5 بالمائة ما بين سنتي 1960 و 1973 ، فإنّه قد إنتقل إلى نسبة 1.7 سنة 1975 .
ويبدو أنّ جميع الفعاليات الإقتصاديّة في هذه الفترة قد إنتابه الخوف وإنطوت على نفسها ، الشّئ الّذي فاقم نكوصا كان محتوما .
والأخطر من ذلك ، أنّ السّياق الظّرفي قد تغيّر تماما ، ولم تستجب السياسات الإقتصاديّة إلى المتطلّبات الجديدة .
ولم تتخلّف البطالة عن ذلك ، بل كانت هناك ظاهرة جديدة ، تتمثّل في مقاومة البطالة لسياسات الإنعاش ، ثمّ أنّ معدّل إستمرارها قد عرف زيادة كبيرة ، حيث إنتقل من سبعة أسابيع سنة 1968 ، إلى 25 أسبوعا سنة 1982 .

وأخيرا فإنّ النّظام النّقديّ الدّوليّ قد تفكّك ، وتمّ التّخلّي عن أسعار الصّرف الثّابتة ، كما اضاف الصّرف العائم إلى السياق الإقتصاديّ الدّوليّ عنصر تردّد من شأنه أن يساعد العودة إلى الحمائيّة .
كما أنّ استقرار الأسعار صار يبدو ، هو أيضا ، وكأنّه قد تحوّل إلى سراب ، اذ لا أحد يعرف هل بإمكان إقتصاد ما أن يؤدّي دوره بإستمرار ، مع وجود أسعار كانت تبدو غير محتملة في منتصف القرن .

ومع ذلك لا أحد يستطيع تجاهل ما يمكن أن يطرح على الأمد الطّويل . ولذلك يجب أن تتضافر السّياسات الظّرفيّة ، أكثر ممّا حصل في السّابق ، مع سياسات بنيويّة ذات نفس طويل . غير أنّ هذه السّيسات البنيويّة لا مكن في أيّ حال من الأحوال أن يقوم بنهجها بلد منعزل ، لأنّ ضرورة التّعاون الدّوليّ اصبحت أمرا حتميّا لا يمكن تلافيه . وهنا يتعلّق الأمر بتحدّ من نوع آخر . 


هل أعجبك المقال ؟

0 تعليقات: