6/02/2015

مساهمة جون مانرد كينز في بلورة الأسس النّظريّة للإقتصاد المعاصر

يعتبر كتاب جون ماينارد كينس J.M Keynes ''النّظرية العامّة للتشغيل والفائدة والعملة'' اليوم ، أحد ركائز الفكر الإقتصاديّ المعاصر .

إذ أعتبر صدور هذا الكتاب تغييرا حقيقيا على مستوى الأفكار ، وعلى المستوى العملي ، أي على مستوى الفعل الإقتصادي . فقد أعاد النّظر في ما سيعرف لاحقا بالنظرية الكلاسيكسية ، التي كانت مرتكزة أساسا على مجموعة من المبادئ التي تبدو غير قابلة للدّحض .

وقد كان آدام سميث Adam Smith ، و دافيد ريكياردو David Ricardo و طوماس مالتوس Thomas Malthus، في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر ، الممثلين الرئيسين للنظرية الكلاسيكية في الإقتصاد، رغم تعارض آرائهم في عديد من النقاط .

إلّا أنّ كينس بدوره يتعرض اليوم للإنتقادات ، ففي الولايات المتحدة ، على الخصوص ، حاول بعض الإقتصاديين أظهار العيوب المرتبطة بنظرية كينس و بمختلف تطبيقاتها .

ثورة كينس:


اعتمدت كلمة الثورة كثيرا للتعبير عن الإضافات التي قدّمها كينس للإقتصاد ، من حيث انها تجاوز للإقتصاد الكلاسيكي . اذ أن جوهر الإضافات التي قدّمها هذا الإقتصاديّ هو مبدأ تدخّل الدّولة ، بل إعتبار هذا التّدخّل أمرا ضروريا، ما شكل ثورة حقيقية امام الفكر الإقتصادي الكلاسيكي القائم على حريّة المبادرة الفرديّة دون ضوابط أو حواجز ، اذ يرى كينس ان تدّخل الدّولة أمر ضروري لضامن للتوازن الإقتصادي .

مع أنّ هذا المبدأ يبدو لنا اليوم أمرا بديهيا ، إلّا أنّه أعتبر سنة 1936 ، ثورة حقيقية .

ومن من رجال السياسة يستطيع اليوم أن يؤكّد أمام الناخبين أن الدولة لا ينبغي أن تتدخّل ، حتى في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها؟

قد يكون من الصعب أن نتخيّل أنّ الإقتصاديين الكلاسيكيين ، كانوا يدعون إلى تحييد الدّولة تماما عن الحياة الإقتصاديّة، ولكن الأمر كان كذلك ، فقد كان هؤلاء ينادون بإستخدام سياسة ''دع الأمور تجري مجراها '' على حدّ عبارة آدم سميث الشّهيرة، في إشارة إلى ضرورة فتح المجال للمبادرة الفردية الخاصة في الحياة الإقتصادية دون قيود .وقد كان هذا الموقف يجد تبريره أوّلا من منطلق فلسفي ليبرالي ، وثانيا من منطلق الفكرة التي كانت للإقتصاديين الكلاسيكيين عن الآليات الإقتصاديّة و طرق ضبطها ، أي ما نسمّيه بالدّورات الإقتصاديّة .

ألّف كينس كتبا أخرى في نظرية النّقود ونظريّة الإحتمالات الرّياضيّة.

الدّورات الإقتصاديّة:



لقد لوحظ أن الحياة الإقتصادية في البلدان التي إعتمدت إقتصادات مؤسسة على التنظير الكلاسيكي ، تتسم على مر السنين بوجود تقلبات دورية على مستوى البطالة أو الأسعار أو الإنتاج. إذ تتكرر مجموعة من الأحداث على نحو متماثل وبوتيرة منتظمة ، شبه دوريّة . لذا يمكن إعتبار أن الحياة الإقتصادية في ظل هذه الإقتصادات عبارة عن تسلسل لدورات ، إذ أن كل دورة تتكوّن من طور صاعد و آخر نازل ، يغيطيان عند جمعهما فترة تستمر من ثمانية إلى عشر سنوات .

عند الطّور السّلبي ، الذي يسمّى اليوم بالرّكودالإقتصاديّ، حين ينخفض الإنتاج والتشغيل ، و المداخيل والأسعار ،و ينخفض الإستثمار الصناعي -الذي قد ينجم عن إرتفاع سعر الفائدة ، أي ثمن قرض المال - ذلك أن الناس ، نتيجة لإنخفاض المداخيل و مواطن الشّغل ، يميلون إلى الإستهلاك بكيفية أقل ، كما أن أصحاب المداخيل المرتفعة يلجؤون إلى مزيد من الإدّخار لعدم ثقتهم في المستقبل .

ولهذا كان الإقتصاديون الكلاسيكيون يعتبرون أن وضعية الرّكود هذه وضعية مؤقتة ، ستليها حتما فترة من الإنتعاش الإقتصاديّ.

وكان البعض يجد لذلك تفسيرا في كون الإنخفاض في طلب الأموال من قبل الصناعيين ، يؤدّي إلى خفض سعر الفائدة . و من ثمة يصير القيام بالإستثمار ذا أهميّة في هذه الحالة .

وقد سادت نظرية التناوب هذه إلى حدود سنة 1929. وهي السنة التي حدثت فيها الأزمة الإقتصاديّة الكبرى التي مسّت العالم بأسره . وهكذرا إرتفع عدد العاطلين عن العمل بشكل مهول وإنهار الإنتاج العالمي .

وحتى بعد مرور سبع سنوات على ذلك لم تكن الأزمة قد إنتهت بعد ، وكان الإقتصاديون الكلاسيكيون لذلك العصر يوصون دائما بالمزيد من الإنتظار! .

آنذاك تدخّل كينس بإنتقاده الشّديد لهذا الموقع الذي لم يكن في رأيه إلّا ليزيد من تفاقم الوضع . ومع ذلك فقد إكتفى في البداية ، بإفتراض فكرة تدخّل الحكومة في إجلترا ، دون أن يبني نظرية حقيقية تمكّن من إضفاء صبغة المشروعية على هذا العمل . و كان كتابه تقديما لهذا الأساس الضروري .


النّظرية العامّة :


يعتبر كينس أنّ كل مستوى من الإستهلاك و الإستثمار يتناسب مع مستوى الإنتاج ، وهذ الأخير يحددّ بدوره مستوى التّشغيل . وهذا يعني أنّ التشغيل الكامل لا يتحقق حتما في حالة التّوازن ، بل بالعكس ، هناك مستويات توازن بقدر مستويات الإنتاج -الذي يتوقّف بالطبع على الإستهلاك والإستثمار-.

لذلك فإنّ الحلّ الشّامل لمشكلة البطالة ، يتطلّب تحديد إنتاج ملائم ، ولا يتم هذا التحديد إلّا بالتّأثير على الإستهلاك والإستثمار .

وبما أنّ الصّناعيين يبدون عاجزين عن العمل في هذا الإتجاه فإنّ على الحكومة أن تعمل وفق ذلك . وفي هذا الوقت بالذات يتدخّل مفهوم ما يسمى ''بـنظرية المضاعف'' . ولشرح ذلك يمكن أن نفترض أنّ عاطلين يقبضون أجرا مقابل قيامهم بأشغال وطنيّة : طرق ، بناء ، مدارس ، إلخ . وأن مبلغ هذا الأجر هو 100 دينار ، إضافة إلى المعونة العمومية التي يمكن أن يستفيدوا منها . فإذا إفترضنا أنهم ينفقون 80 دينلرا من هذا المبلغ في إستهلاك كمالي ، فإنّ ذلك يعني أن التجار هم الذين سيحصلون على هذا المبلغ ، و سينفقون بدورهم 80 بالمائة من هذا المبلغ ، أي 64 دينارا من ال80 دينارا الذين حصلوا عليها . ثم أن الاشخاص الذين سيحصلون على ال 64 دينارا كدخل تكميلي ، سينفقون 80 بالمائة من هذا المبلغ ، أي 51 دينارا تقريبا ، في مشتريات إستهلاكية وهكذا دواليك . والنّتيجة أنّ تزايد الدّخل الكّلّي للبلد لن يكون 100 دينارا ، بل : 100 + 80 + 64 + 51 + ...+ دينارا .
هذا التّزايد في الدخل الكلي هو ما سماه كينس بـمضاعف الإستثمار .

والجدير بالذكر هو أنّ إرنست إنجل Engel (إنجليزي)- ملاحظة : لا ينبغي الخلط بينه و بين إنجلز Engels صديق كارل ماركس- كان قد أبدى ملاحظات مماثلة في القرن التاسع عشر.

هكذا يمكن أن نلمس أنّ مجرّد أداء أجور جديدة لعدد قليل من العمال الجديدين مقابل قيامهم بإنشاء مشاريع وطنية يمكن أن يحدث تغييرا كبيرا في إقتصاد بلد ما . ويمكن إعادة التحليل السابق على الشكل التالي : إنّ العاطلين الذين يتم تشغيلهم في بناء طريق ، أو في أي مشروع يمثل إستثمارا في القطاع العام ، يساهمون بطريقة مباشرة في الرفع من مداخيل التّجار ، وبالتالي الصناعيين المزودين . ولكي يتسنى للصناعيين الرّفع من إنتاجهم للتوافق مع الإستهاك المتزايد ، فإنّهم سوف يشغّلون عمّالا آخرين ، وهؤلاء ، سينفقون كذلك أجورهم وهكذا دواليك .

نتيجة لهذا إذن ، سيحدث نمو عام للإستثمارات ، وللإنتاج ، وللتشغيل . هكذا تتوفّر الدّولة إذن على آليّة فعّالة ، تمكّنها من التّقليل من البطالة ، عبر تحفيز التّشغيل في القطاع الخاص ، إنطلاقا من تشغيل عدد من العمّال في مشاريع وطنية .

بعبارة أخرى تقوم الدولة في فترات الركود والإنكماش بدور المستثمر ، من خلال تمويل برامج الأشغال الكبرى ، حتى تعيد ، بشكل غير مباشر ، إنطلاقة الإنتاج الصّناعي ، فتنتعش بذلك الحياة الإقتصاديّة .

وبما أنّها الوحيدة القادرة على أن تنظر إلى الوضعية الإقتصادية بهدوء - أي بالإطلاع على كل المعطيات و بعيدا عن ضغوطات المنافسة و المضاربة على عكس المستثمرين الخواص -  ، دون أن تنجرّ خلف خوف مفرط ، أو تشاؤم مفرط ، فإنّ تدخّل الدّولة يصير حتميا كلّما تعلّق الأمر بإنعاش الطّلب في فترات الأزمات والرّكود و عدم الإستقرار .

وينبغي الإشارة إلى أنّ التّنظير لإمكانية تدخّل الدّولة في الإقتصاد عبر هذه اللآلية ، فتح المجال للشرعنة تدخلها للقيم بأجراءات أخرى تنعش الدّورة الإقتصاديّة ، و من هذه الإجراءات مثلا، إقناع و تحفيز رجال الأعمال بالرّفع من إستثماراتهم عبر مدّهم بالمعطيات والدّراسا ، بتوفير القروض، و التسهيلات ،والإمتيازات الضريبية ...

وبالطبع فإنّ مثل هذه التّدخّلات لا تعطي نتائج قصيرة المدى ، اذ لا بد من مضيّ وقت كاف بين القيام بهذه الإجراءات وبين وظهور فعاليتها الملموسة . 

إنّ الأشغال الكبرى للدّولة ، مثل إنشاء الطّرقات السّيارة ، تمثل آلية هامة  للحفاظ على مستوى جيّد من التّشغيل .

الإنتقادات الموجّهة لنظريّة كينس:

  • مدرسة شيكاغو : لنعد إلى الرّسم التخطيطي لكينس ، نحن نعرف أن مستوى طلب الإستهلاك ، إذا تمّ إستكماله بمستوى طلب الإستثمار ، هو الذي يحدّد الطلب الفعلي ، وبالتالي يحدد المستوى العام للإنتاج ، ويحدد بالتّأكيد ، في النهاية ، مستوى التّشغيل . ومع ذلك ، فإنّ إقتصاديي مدرسة شيكاغو ، يؤكدون أنّ التشغيل الكامل يتوقّف اساسا على مقادير العملة التي يخلقها النّظام البنكي . 
  • الإنتقادات الأخرى : وتتعلّق بالإستعمال المفرط لنظرية كينس ، إذ يرى كثير من الإقتصاديين أنّ نظرية كينس لا يمكن أن تطبّق لضبط الإقتصاد الحديث . ويلوم هؤلاء الإقتصاديون الدّول على التّدخّل بدون سبب معقول ، ولأدنى أزمة . والواقع أنّه ينبغي الحذر من المسألة التالية : فالزّيادة المبالغ فيها في الإستهلاك وفي الإستثمار قد تخلق حاجيات لا تتناسب إطلاقا مع القدرة الإقتصاديّة لبلد ما ، وهو ما سيؤدّي في النّهاية ولا محالة ، إلى حالة تضخّم . فحينما يكون إقتصاد بلد ما ، يتضمّن نسبا ضئيلة من البطالة ، أي حين يكون قريبا من التّشغيل الكامل ، فإنّ مضاعف الإستثمار لا يمكن أن يقوم بدوره . وهكذا قد يكون للتدخل الحكومي حينئذ أثر عكسي على الحياة الإقتصاديّة .
لقد سكت كينس في نظريته عن الأهميّة التي يمكن أن تكون لكمية العملة المتوفرة في فترة معينة
من الحياة الإقتصاديّة لبلد ما ، ويعتبر هذا من أبرز الإنتقادات التي توجّه إلى نظريّة كينس ،
إذ أن ''الحياة الإقتصاديّة لبلد ما ، تتوقّف على الكتلة النّقديّة المتوفّرة . إذ لتلافي حدوث أزمة ، لا بدّ أن
تتطابق هذه الكتلة تطابقا دقيقا مع القدرة الإنتاجيّة ، و أن تكون هذه الكتلة النّقديّة موزّعة بإحكام بين الإدّخار و الإستهلاك

هل أعجبك المقال ؟

0 تعليقات: