6/26/2014

النّظام النقّدي الدّولي

تتشابه كلّ عملات العالم من حيث التّصميم ، إلّا أن قيمتها تختلف ، و ترتبط قيمة عملة ما بمدى الإستقرار السّياسي وبالقوة الإقتصاديّة للبلد الّذي يصدرها ، في إطار ما يعرف بنظام نقديّ دوليّ يحكم التّبادلات داخل وبين الدّول.

ترتبط حالة الفوضى النّقديّة التي يعرفها العالم منذ نصف قرن تقريبا ، بثلاثة أسباب رئيسيّة :
  1. -معيار الصّرف بالذّهب .
  2. -سبب ثان هو لازم للسبب الأوّل ويتمثّل في عجز ميزان الأداءات الأمريكي والتّضخّم العالمي . 
  3. -المضاربة الدّوليّة لتي لا تتوقّف عن الإرتفاع .

 

معيار الصّرف بالذّهب :


لقد اعتمد إقتصاد أغلب دول العالم في فترة ما من التّاريخ ، على الذّهب ، كمعيار للّصرّف ، بمعنى انّ هذا المعدن النّفيس قد استخدم في الماضي كأداة وحيدة سواء للمدخرات الدّوليّة - إحتياطيات الدّول- او للتـّسديد الدّولي-الدفع عند عمليات تبادل السّلع والخدمات-.

ثم عرف الإقتصاد العالمي في فترة لاحقة متقدّمة ، شيئا فريدا من نوعه ، اذ اصبحت توجد عملة متميّزة عن باقي العملات ، من حيث انّها تقوم بنفس الوظائف التي إضطلع بها المعدن النّفيس لقرون .
معنى ذلك انّه صار بإمكان كل بلدي متلك تلك العملة أن يطلب ، وفي أيّ وقت شاء ، من البلد الذي يصدرها ، ان تعطيه ذهبا بدلا منه. 

هذه العملة ، هي الدولار ، امّا البلد المصدر ، فهو الولايات المّتحدة الأمريكيّة والّذي أعلنته بلدان الحلفاء المنتصرة في الحرب العاملية الثانية ،منذ سنة 1944 ، العملة الرّئيسيّة لمشروع بناء نظام نقديّ عالميّ موحّد ، يخوّل تخطّي الأزمات و أضرار الحرب العالميّة الثانيّة .
حينها ، كان بإمكان كلّ حائز على 35 ورقة دولار أمريكيّ ، أن يحصل على أوقيّة-30 غرام- تقريبا، من الذّهب ، من الأمريكيين.

إنّ هذا النّظام الذي طبّق جيّدا إلى حدود سنة 1958 ، لم يتأسسّ بناء على رغبات الولايات المتحدة الأمريكيّة نفسها ، بل على العكس من ذلك ، اذ قام بصفة تلقائية ، دون تخطيط أو ارادة حقيقة ، بل نتيجة لعادة انتشرت على صعيد عالميّ ، الا وهي إستخدام العملة الأمريكيّة في جميع المعاملات الدّوليّة ، وقد كان هذا الإعتماد ناتجا عن الثّقة الكبرى التي كانت تمنح للعملة الخضراء ، من قبل كلّ سكّان العالم ، افراد و دولا..
لقد تطلّبت هذه الممارسة اذن ثقة عمياء في الدّولار ،فاذا ما انهارت الثّقة في قيمة هذه العملة ، انهار النظام النّقدي العالميّ تماما .

ويقصد بالثّقة ، ثقة الحائز على ورقة دولار ، انّ لورقته قيمة ثابتة من الذّهب ، يمكنه الحصول عليها متى شاء .
الّا أنّ إنهيار النّظام قد حدث فعلا ، وذلك بين سنتي 1960 و 1971 ، حين تبيّن أنّ إحتياطات الذّهب -لدى الولايات المتّحدة بطبيعة الحال- أقلّ من كتلة الدّولار المتداولة .
هذه هي الوضعيّة الّتي أدّت إلى انهيار النّظام ، بمعنى انه ، تم تعليق قابلية تحويل الدّولار إلى ذهب ، و تعتبر وضعية الإختلال التي حدثت منذ 1960 بين كتلة الدّولار المتداول في العالم ، و الاحتياطات الأمريكيّة من الذّهب ، واحدة من الأسباب الرّئيسيّة لحالة الفوضى النّقديّة التي يعرفها العالم الى يومنا هذا .

 إنهيار النّظام : 


لم تكن الولايات الأمريكيّة قد عرفت التّضخّم في تلك الأيّام ، اذ انّ الدّولار امتلك قدرة شرائيّة قارّة . لذا كان سعر الذّهب قد إستقرّا في حدود ال35 دولار للأوقية الواحدة من الذّهب .
في حوالي الخمسينات ، أي بعد إنتهاء الحرب العالميّة الثّانية و بعد الشّروع في تطبيق مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا ، كان الدّولار العملة الأساسية في هذا المشروع ، اذ عرف الدّولار نتيجة للثّقة الكبيرة التي حظي بها من قبل الأوروبيين في تلك الفترة اتسعمالا و اقبالا شديدين .  هذا علاوة على بدأ الحرب الباردة بما عنته من سباق نحو التّسلّح و سباق نحو الفضاء ، ما ادّى بالأمريكيين إلى تضخيم الكتلة المتدالولة للدّولار على أمل ان تمكّن الأرباح من تحقيق توازن من جديد بين الورق المتداول واحتياطي الذّهب . توازن أمل أن يحققّ في مستقبل قريب حينها .

ويعتبر هذا بالأساس ، من أسباب بداية عجز ميزان الدّفوعات الأمريكي ، إذ بدأ التّضخم يستشري في الولايات المتحّدة حينئذ.
نتيجة لهذا التضخّم ، بدأت الأسعار ترتفع هناك ، لذا فقد الدّولار من قيمته الشّرائيّة . 
ورغم أنّ أسعار المواد بدأت ترتفع ، فإنّ سعر الذّهب ما كان له أن يتغيّر وفقا لآليات النظام النّقدي القائم-نظام قائم على انّ الذهب هو معيار الصّرف - لذا بقيت الأوقية من الذّهب مساوية ل35 ورقة دولار أمريكي . 
بعبارة أخرى ، كان الدّولار يتآكل ، بينما احتفظ الذّهب بالثقة التي يكنها لها الانسان -بمعنى أنّ من الحائزين على الدّولار ، فضّلوا المعدن النّفيس عوضا على الورقة - لثقتهم ان قيمة الذهب ثابتة لن تتغير ،و لملاحظتهم ان الدّولار يتآكل .
لذا تضاءل مخزون الذّهب في الولايات المتحدة الأمريكيّة تدريجيا ، حتّى لم يبق منه في 15 أوت أوغسطس 1971 ، سوى 10
ملايير من الدّولارات ، بينما احتوى فورت نوكس على ذهب بما قيمته 22 مليار دولار سنة 1944. 

نظام الصّرف الثّابت :


لصرف العملات ، بمعنى للقيام بعمليات مبادلة إقتصاديّة بين الدّول بعملات مختلفة ، إعتمد العالم نظام صرف سمّي بنظام الصّرف الثّابت أو نظام بريتون وودز Bretton Woods ، وقد تمّ الإتفاق على هذا النّظام من قبل 44 دولة بعد انعقاد مؤتمر النّقد الدّولي بين 1 و 22 يوليو-جويلية من سنة 1944 ، وقد ظلّ هذا النّظام قائما إلى مارس من سنة 1973 .
في ظل هذا النظام كان لكل عملة لبلد ما سعر مكافؤ بالذّهب ، مصرّح به لدى الصّندوق الدّولي ، مختلف حسب إحتياطيّ الدّولة المعنيّة من الذّهب و كتلة العملة المتداولة .
هذا إضافة إلى أنّ جميع العملات كان لها ، فيما بينها ، أسعار للصّرف ، لا يمكن أن تبتعد الواحدة منها عن الأخرى بأكثر من 1 بالمائر لا غير .
وفي هذا الحل كان يقل بأنّها ثابتة ، بمعنى أنّ نظام الصّرف العالميّ كان يصنّف بأنّه : نظام صرف ثابت ، قبل سنة 1973 .
وهكذا إذن إذا أصدرت الدولة 1 مثلا ، العملة الوطنية ''أ'' ، والتي تساوي حسب مخزون هذه الدّولة من الّذهب : 1/40 أوقية ذهب . 
وإذا كان هناك عملة ''ب'' للدّولة 2 تساوي 1/20 حسب مخزون هذه الدّولة .
إذن فإنّ العملة ''ب'' تساوي ضعف العملة ''أ'' في سوق الصّرف .

كان الصرف اذن ثابتا ، ولكنه أيضا معدّل ، بمعنى أنّه اذا ما حدث ضغط دخلي في الدّولة1 ما قد يسببّ إنخفاضا في قيمةعملتها'' أ'' لتصل إلى 2.2 من العملة ''ب'' مثلا ، فإنّ بإمكان الدّولة 1 تخّض عملتها إلى ما كانت عليه حتى لا يستمرّ انخفاض قيمتها إلى أكثر من 1 بالمائة على شرط أن تتمّ موافقة باقي الدّول على هذا ، و بمراقبة صندوق النّقد الدّوليّ . 
في ظلّ هذا النّظام ولأن الدّولار كان ككلّ العملات معيّرا بالذّهب ، ولكن لميزته أنّه حضي بثقة كبرى ،  فقد تبوّأ مكانة هامّة و فريدة في النّظام النّقدي العالميّ.كان الدّولار اذن أكثر العملات تداولا في العلاقات الإقتصاديّة بين الدّول ، واعتمد - تماما كالذهب- مقياسا لباقي العملات لتسعيرها .

لتمويل العجز في الميزان التجاري الذي وقع ، قررّت الولايات المّتحدّة الامريكية تضخيم الكتلة المتداولة للدولار لدفع نفقاتها وحاجياتها ، بهذا الفعل ، لم تهتم الولايات المتحدة الأمريكية حينئذ أنّ الدّولار ليس عملة محلّية أمريكية فحسب ، بل أنّه صار معيارا لتسعير باقي عملات دول العالم ، في سياسة اصطلح حينها على تسميتها ب ''التجاهل الحميد'' .

ففي سنة 1971 ، صرّح جوهن كونالي John Connally (إنجليزي) ،وزير الخزانة الأمريكية آنذاك قائلا : ''الدّولار عملتنا نحن الأمريكيون ، وأنتم أولى بمشاكلكم ''. قاصدا باقي دول العمل المعتمدة على العملة الأمريكية معيارا للتسعير و إحتياطيا نقديا مكافئا للذهب . بعبارة أخرى فقد تجاهلت الولايات المتحدة الأمريكية ، تخزين باقي دول العالم -خاصة أوروبا- و اعتمادها في المبادلات والأعمال على الدّولار الأمريكي على أنّه رديف للذّهب ، لثقتهم في أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ستحوّل كل الدّولارات التي يملكونها الى ذهب متى شاؤوا -وهذا هو تعريف معهوم الثقة في عملة ما ، اذ هو الثقة في أن لعملة ورقية ما قيمة لا تتغيّر -.

وتفسّر عبارة جوهن كونالي أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ، اعتبرت الدّولار الأمريكي ، عملة للأمريكيين فقط ، و أنّ طبع المزيد منه دون الإلتفات إلى الإحتياطي الأمريكي من الذّهب ، تصّرف لن يضرّ الّا الأمريكيين - من حيث أنّه سيرفع نسبة التّضخّم و يزيد من الأسعار داخل الولايات المتحدة-.

قوبل هذا التصّرف الأمريكي بادئ الأمر بالرّفض من باقي دول العالم ، أذ طالب الجنرال دي غول Charles de Gaulle ، في تصريح شهير ، الولايات المتّحدة الأمريكية بإحترام قوانين تحديد سعر العملات في سوق الصّرف، كما طالب الدّول بالإعتماد على الذّهب في المبادلات عوضا عن الدّولار.
كما صرّح المسؤولون الألمانيون سنة 1971 إنسحابهم من النظام النقدي الدولي الفارض تثبيت سعر العملات -والذي لم يسر على الولايات المتحدّة إستثناءا - إذ أعلنوا أن الولايات المتحدة لم تعد تحترم هذا النّظام ، اذ أنّ ألمانيا إقتنت دولارات أمريكية ، بثمن مرتفع-قريب من أوقية ذهب ل35 دولار - على الرّغم من أنّ السعر الحقيقي للدّولار قد أضحى منخفضا جدّا عن هذا نتيجة للتّضخم الذي تعرفه الولايات المتّحدة ، وهو ما يعني أنّ ألمانيا دفعت التّضخم الأمريكي ، عوضا عن الولايات المتحدة الأمريكيّة نفسها .

لم ترعو الولايات المتّحدة الأمريكية وواصلت سياستها بعدم تسعير عملتها من جديد كباقي العملات وفقا لاحتيطها من الذّهب ، وقد قام الرّئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون Richard Nixon سنة 1971 بتعليق قابلية تحويل الذّهب الى دولار، كيف لا ، وقد احتوى المخزون الأمريكي في تلك السنة على 10 مليار دولار فقط ، بينما ناهزت كتلة الدّولار المتداول في العالم 80 مليار دولار .
وقد أدّى هذا إلى أن تدخل البنوك المركزية لجلّ دول العالم في وضعيّة محيّرة ، اذ ما من أحد يتعهّد بدفع قيمة العملة الأمريكية الموجودة في خزائنها ، بل أن هذه القيمة أصلا آخذة في التناقصل نتيجة لتآكل الدّولار بفعل عمليات طبعه من قبل الحكومة الأمريكية لتجاوز ال

إعتبرت سنة 1973 أذن ، سنة إنتهاء العمل رسميا بنظام الصرف الثّابت القابل للتّعديل ، اذ أعلنت البلدان الأوروبيّة في 16 مارس من تلك السّنة ، التّوقّف فن دعم العملة الأمريكية - التّوقف عن قبولها عند استلام الأموال في المبادلات التجارية- وترك سعر هذه العملة يتحدد وفق العرض والطّلب.

تمّ الإتفاق سنة 1976 ، في ما عرف باتفاقيات جامايكا (فرنسي)، على اطار قانوني لنظام صرف عالمي جديد ، سمي بنظام الصّرف المرن (إنجليزي)، والّذي لا يتمّ فيه تحديد قيمة عملة ما بطريقة مسبقة من الدّولة المصدرة وقا لإحتيطها ، وإنّما تأخذ العملة قيمة متغيّرة ، كلّ يوم و كلّ لحظة ، وفقا لمتغيّرات السّوق ، أي وفقا لقانون العرض والطلب عليها سواء كانا عرضا و طلبا داخليين -في السوق المحليّة للدّولة - أو خارجيين -بين الدّول -.
لم يكن نظام الصّرف المرن ثمرة بحث أو دراسة ، بل صار قائما نتيجة للأمر الواقع بعد ان نسجت كل العملات على منوال الدّولار الأمريكي ،الذي يعتبر أوّل عملة غيّر سعرها دون الإلتفات الى احتياطي الذّهب ، ونظرا لمكانة الولايات المتحدة في العالم ، فقد صارت عملتها كانت مرجعا ، أي مرادفة لما كان عليه الذّهب في السّابق ، وبالتّالي فقد فانه صار من غير الطبيعي أن تبقى عملات باقي الدّول ثابتة ، مسعّرة ، حسب قيمة دولار ،صارت بدورها غير ثابتة .

كلّ عملات العالم في يومنا هذا تقريبا ، تعتمد على النّظام المرن لتحدّد قيمتها ، ولانه نظام أرسي بحكم الأمر الواقع لا عن دراسة و تخطيط ، فانه يجعل العالم في حالة فوضى نقديّة شبه دائمة ، كما أنّه يوجد صعوبات متعلّقة بالتنمية و التكافؤات لا يمكن أن تحلّ إلّا بالإتفاق على عملة دولية مرجعيّة تعتمد لتعيير التكافاءات ، و بتحديد دور الّذهب في المبادلات و في النظام النّقديّ العالميّ.

هل أعجبك المقال ؟

0 تعليقات: