9/03/2015

التضخم وإنخفاض قيمة العملة - الجزء 1

حين يضطرّ المرء إلى دفع كيلوغرامات من الأوراق النقدية ليتمكن من شراء رغيف خبز..

إن مفهومي ''التضخم'' و ''إنخفاض قيمة العملة'' لا يحتاجان إلى تعريف في الحقيقة لانّهما ظاهرتان معاشتان ، وقد عرف البشر هاتين الآفتين الإقتصاديتين منذ أزمنة سحيقة على عكس ما يعتقده عامة الناس .

مطلع القرن العشرين : 


ومع ذلك فإن العملات الأوروبية ، قبل سنة 1914 ، كانت تعيش إستقرارا تاما . فالإتحاد النّقدي اللاتيني ، وهو أول خطوة نحو تكون الإتحاد الأوروبي و منطقة اليورو ، كان يضم خمسة بلدان وهي : بلجيكا ، فرنسا ، اليونان ، إيطاليا ، و سويسرا . وهي دول كانت العملات فيها تتداول بحرية ، وحسب التكافؤ - أي بالقيمة المسكوكة على القطعة النقدية - وكان وزن المعدن الصافي يطابق القيمة الحقيقية لهاته القطعة النقدية . ولم يكن يوجد إذن ، أي مشكل في عمليات الصرف على حدود هذه البلدان الخمسة . فالذهب ، وقطع النابوليون ، والصلبان السويسرية ، كانت هي أيضا لها تسعيرة قانونية .
ومن الممارسات التي كانت معروفة آنذاك ، أداء بعض الإدارات لرواتب مستخدميها بالقطع الذهبية ، أما الأوراق النقدية التي كان لها مقابل بالقيمة المطلقة للمعدن الأصفر ، فقد كان يكفي تقديمها إلى شباك أحدى المؤسسات الرسمية ، للحصول على مقابل لها ذهبا ، مادام النظام النقدي كان يقوم على معيار الذهب .
لكن ، ما إن بدأت الحرب العالمية الأولى ، حتى تبين أنّ الإتحاد النقدي اللاتيني لم يعد قادرا على الإستمرار : فإغلاق الحدود نتيجة للأعمال العسكرية ، والصعوبات المالية التي كانت تواجه بلدانه ، فرضت على كل حكومة أن تتصرف لوحدها . ومنذ ذلك الحن أيضا أدركت أوروبا أن عليها أن تدخل في حسابها شريكا جديدا ، هو الولايات المتحدة الأمريكية . إذ سرعان ما تبين للجميع ، سواء بالنسبة للمحايدين أو بالنسبة للأطراف المتحاربة ، أن المعسكر الذي ستنضم إليه الولايات المتحدة الأمريكية ، هو المعسكر الذي سيكسب الحرب .
أطفال ألمانيون يلعبون بأكوام من الأوراق النقدية
بعد أن فقدت قيمتها إثر الحرب العالمية الأولى 

حرب الأسعار : 


إنّ الطريقة في غاية البساطة ، فوض أداء مقابل للقيمة الكاملة لورقة نقدية بالذهب ، قررت إحدى الحكومات الإقتصار مثلا على تسديد نصف المبلغ ، هكذا اذن يمكن طرح كتلة نقدية جديدة للتداول هي أكبر من الكتلة النقدية السابقة ، ويكون لزيادة هذه الكتلة علاقة مباشرة مع نسبة الإقتطاع التي حصلة من القيمة الفعلية للورقة النقدية . إن هذه السياسة في الواقع هي ما يعرف بـ''تخفيض قيمة العملة'' .
وفي البداية لا تتم ملاحظة أي تغيير في الدورة الداخلية ، أي في دورة تداول الأوراق النقدية على الصعيد الوطني ، فورقة 100 فرنك الفرنسية ، تستمر في التداول ، في الظاهر ، وهي تساوي 100 فرنك بالطبع لا 50 ، وبالتالي ''فلن يكون هناك أي تغيير'' ، حسب ما أكدت آنذاك أغلب البيانات الحكومية إبان الحرب .
لكن الأمور تسوء فعلا حينما يريد أحد المواطنين السفر إلى الخارج ، ففي السابق كان المواطن الفرنسي يحصل اذا ما اراد السفر إلى سويسرا ، على 100 فرنك سويسرية مقابل ال100 فرنك الفرنسية التي قدمها الى عون الصرف في الحدود ، ولكن هاهو عون الصرف السويسري لا يقترح عليه سوى 50 فرنك سويسرية مقابل ال100 فرنك فرنسية التي قدمها له ، إنّ هذا المسافر سيدرك حينها إذن ، معنى إنخفاض قيمة العملة .
ولنفترض ان هذا الشخص قد أقام فترة من الزمن في سويسرا ، ثم رغب في العودة إلى بلده ، معتقدا أنه سيجد فيها ظروفا أفضل للحياة ، إنه سيواجه حينئذ مفاجأة جديدة : لقد إرتفعت تكاليف المعيشة في بلده على ما ما تركها عليه قبل الهجرة ، والأشياء التي كانت في السابق تشترى ب 100 فرنك فرنسية ، صارت تشترى اليوم ب 200 فرنك ، سيلاحظ هذا الشخص بمرارة ، ان العيش في سويسرا - رغم إستبدال 100 فرنك فرنسية ب 50 فرنك سويسرية فقط - لا يختلف في نهاية الأمر عن العيش في فرنسا ، بعد أن تم التخفيض في قيمة العملة ، بعبارة أخرى ، فإنّ القيمة الحقيقية لل100 فرنك فرنسي ، هي نفسها قيمة ال50 فرنك سويسري .

الحلقة المفرغة : 


ليس هناك ما يدعو إلى الإستغراب في كل هذا ، فجميع المنتوجات التي كانت تشترى من الخارج ، صار يتطلب إقتناؤها ضعف المبلغ ، ما سيؤدي إلى تحركات إجتماعية تطالب بالزيادة في الأجور ، والزيادات ف الأجور في الواقع لن تتم بمضاعفة الإنتاج ، بل بمضاعفة الكتلة النقدية المتداولة ، وهو ما سيؤدي الى نفس نتائج صرف قيمة أقل للأوراق النقدية ، إن مضافعة قكتلة النقد المتداول - دون تحقيق إضافة في الإنتاجة أي في القيمة - سيؤدي إلى حصول التضخم .
لكن بمجرد حصول التضخم ، فإن الإقتصاد يحبس داخل حلقة مفرغة ، أو بعبارة أخرى داخل سلسلة من الأزمات ، إذ كلما إرتفعت تكلفة المعيشة - وهذا نتيجة طبيعية لتخفيضة قيمة العملة أو لضخ كتلة من النقد أكثر من قيمة إحتياطي الذهب بالبلد - طالب المأجورون بالرفع من أجورهم ليتمكنوا من إقتناء حاجياتهم الحياتية . كما أن الدولة نفسها تجد أن أعباءها ترتفع في جميع القطاعات ، فالدولة أيضا لها مصاريف ، وبالتالي تعمل لمواجهة هذا الارتفاع على الرفع من الضريبة ، وإلى فرض مكوس جديدة على المنتوجات - ضريبة القيمة المضافة TVA في البلدان الفرنكفونية ، وضريبة مماثلة لها ICHA في سويسرا ... - ثم تلجأ في نهاية الأمر حينما تتطلب الأسعار والأجور ارقاما كثيرا للتعبير عنها ، إلى حذف صفر أو صفرين ! هكذا تبدأ إنطلاقة جديدة ، بنقد جديد ، نحو قمم أخرى من الأسعار والنفقات ، ناجمة عن موجات جديدة من التضخم ، وعن إنخفاض قيمة النقد . 

هل أعجبك المقال ؟

0 تعليقات: