ومنذ إزدهار الملاحة البحريّة خاصة بعد الإكتشافات الجغرافيّة الكبرى،حلّت السّفن البحريّة محلّ السّلّة التي يتحدّث عنها المثل الشّعبيّ.
ذلك أنّ فكرة التّأمين في مجال التّجارة والإقتصاد عموما ، إنطلقت من عالم البحر .
مقامرة بحريّة :
في القرن الثاني عشر ، وبعد الرّكود الكبير الذي لحق إنهيار الإمبراطورية الرومانية ، والذي عقبه إنتشار للغزوات الهمجيّة ووللفوضى في أوروبا ، بدأت الملاحة البحريّة تسترجع سالف ناشطها من جديد .
وقد فتح النّقل البحريّ آنذاك المجال لتقريب المسافات ولتحقيق أرباح كبرى للتّجّار الكبار . بيد أنّ مخاطر عديدة كانت تحوم حول السّفن ، سواء طبيعية كالعواصف ، أو بشريّة ، كسطو القراصنة . وبالتالي ، فإنّ النّقل البحري كان يمكن أن يسببّ من ناحية أخرى الإفلاس التّام للتّاجر .
لهذا السّبب ، عمل أغلب التّجّار على توزيع السّلع على عدّة سفن ، لا تنطلق في نفس الوقت و لا من نفس الميناء ، حتّى يتمكّنوا من تقليص الخسارة ، إذا حدث أيّ طارئ ، عملا بالمثل الشّعبي القديم .
لقد شكّل هذا الإجراء ، الطّريقة البدائيّة للتّأمين ، ولبدائيتها ، فإنها لم تكم بالطّبع كافية لدرء الأخطار . ولهذا إنتشر اللجوء إلى الإقتراض البحريّ : بمعنى أنّ التّاجر يقترض مبلغا ماليّا بنسبة فائدة مرتفعة -من 25 إلى 30 بالمائة - ويلتزم بالتّسديد إذا ما وصلت حمولته سالمة إلى المرسى .
إلّا أنّه حدث وإن حرّم بابا الفاتيكان ممارسة الرّبا و الإقتراض بالفائدة ، فكان هذا التّحريم عائقا أمام تنمية التّجارة الدّوليّة ، خاصّة مع الثّقل الإقتصاديّ الّذي كانت تشكّله البلدان الأوروبيّة الكاثلوكية آنذاك .
ومع ذلك فقد ساهم هذا التّحريم ، في تسريع ظهور التّأمين بصفته وسيلة لتلافي هذا العائق دون معصية أمر التّحريم .
إذ أصبح التّاجر عوض أن يقترض المبلغ المؤمّن عليه ، لا يحصل على هذا المبلغ إلّا عند حصول مكروه . أمّا عند التّوقيع على العقد ، فلم يكن التّاجر مطالبا بأن يدفع سوى مبلغا بسيطا من المال ، مقابل التّمتع بخدمة التأمين ، سمّي هذا المبلغ بقسط التّأمين .
قرنان من الزّمن للوصول إلى وثيقة التّأمين :
إنّ تحوّل القرض عالي الفائدة ، إلى وثيقة تأمين ، لم يتمّ ببساطة كما يظنّ البعض .
ذلك أنّ هذا قد تطلّب ما يقارب قرنين من الزّمان : إي بالضّبط إلى حدود العالم 1385 ، وهو تاريخ التّوقيع على أوّل وثيقة تأمين حقيقية ، بمكتب أحد الموثقين ، بمدينة جنوة الإيطالية .
ويرى بعض المؤرّخين أنّ اصل هذه الضمانات ، يعود في حقيقة الأمر إلى الفينيقيين و الإغريق . ويمكن إعتبار الفينيقيين روّادا في هذا المجال ، خاصّة أنّهم كانوا يشتركون مع سكّان جنوة خلال القرن الخامس عشر ، في كون ثروتهم موجودة في البحر وليس على اليابسة ، نتيجة لأهميّة نشاطاتهم البحريّة وتوسّعها .
وبما أنّ مركز ثقل التّجارة الدّوليّة قد إنتقل تدريجيّا من جنوب أوروبا نحو شمالها ، فإنّ الهولنديين أعطوا دفعة خارقة لأنظمة التّأمين.
بل أنّ إزدهار نظام التّأمين والذّي شجّع التّجارة البحريّة ، كان من العوامل التي جعلت من هولندا في القرن الخامس عشر ، أي في القرن الموالي ، أغنى منطقة في أوروبا ، وهذا قبل أن تتنازل عن هذه المرتبة لصالح الإنجليز .
فجر شركات التّأمين الكبرى :
تجدر الإشارة إلى أنّ الوثائق الأولى للتّأمين في الحياة ، وجدت في مدينة أنفير (و تعرف أيضا بأنتويرب) - في بلجيكيا حاليا إلّا أنها تقع تاريخيا ضمن الأراضي المنخفضة - .
وهي وثائق تؤمّن الشّخص بمفرده خلال فترة سفره . وبالتالي كانت تشكّل مراهنة حقيقيّة على وفاته .
هكذا كان التّأمين بادئ الأمر ، قضيّة فرديّة تتعلّق بتاجر و سلعه ، أو بشخص بمفرده . بيد أنّ التّوسّع الإستعماريّ والبحريّ الّذي شهده القرن التّاسع عشر ، وكذلك إزدهار الرّأسماليّة ، قد أدّيا إلى تاسيس شركات لإتّقاء المخاطر الّتي ما انفكّت تتزايد .
ففي العام 1602 ، تمّ إنشاء أوّل شركة مجهولة الإسم ، وهي الشّركة الهولنديّة للهند الغربيّة . وفي العام 1720 ، تمّ تأسيس شركة تأمين لندن ، والشّركة الملكيّة للصّرف و التّأمين ببريطانيا ، وهما شركتان كانت لهما في البداية صبغة بحريّة ، ولكنّهما سرعان ما أن قامتا بمزاولة التأمين عن الحريق ، و عن الحياة .
وبعد أقلّ من 100 سنة ، تمّ تعداد 38 شركة مجهولة الإسم من هذا النّوع في هامبورغ. مع العلم أنّ المؤّم الفرديّ كان قد إختفى نهائيّا من ذلك الوقت .
تأمين على المؤمّن :
يعتبر القرن التّاسع عشر عن حقّ ''العصر الذّهبي للتأمين'' . فقد فتح الإزدهار الإقتصاديّ الباهر أمام المؤمنين مجال عمل غير محدود نتيجة للإزدهار الكبير للملاحة البحريّة الذي وقع إثر فتح المستعمرين لأسواق جديدة لترويج مضاعتهم ، في البلدان المستعمرة .
وكانت أبرز مجالات التّأمين ، التأمين على الملاحة البحريّة ، والتّأمين على الحريق ، و التّأمين على الحياة .
ولكن سرعان ما انفتحت مجالات عمل جديدة لشركات التّأمين ، إنضافت إلى ''المجالات العريقة'' التي ذكرناها ، إذ إنبثق التأمين على حوادث السّير عقب النّموّ الكبير الذي عرفه النّقل البرّيّ . في حين جاء التّأمين على حوادث الشّغل عقب إنشاء المصانع الكبرى ، واساسا إثر تنامي النّشاط النّقابي و الحركات العمّاليّة .
وإذا كان التّقدّم التّقنيّ قد ساعد على إنتشار الرّفاه بصفة عامّة ، فإنّه قد ساهم في خلق مخاطر جديدة من الجهة المقابلة .
وهي ملاحظة تتأكّد صحّتها في عصر الطّائرات العملاقة ، وناقلات النّفط الكبرى ، ومحطّات توليد الطّاقة النوويّة .
وهكذا أدركت شركات التّأمين بسرعة ، أنّ عليها لمواجهة تفاقم الأخطار و إرتفاع إمكانية حصولها ، أن توسّع الأسس الّتي تقوم عليها .
ومنذ ذلك الحين ، أخذت سوق التّأمين صبغة دوليّة . فقد إندمجت بعض الشّركات الوطنيّة مع بعضها ، وفتحت فروعا في بلدان متعدّدة لتغطية تفاقم الأخطار و تعدّدها المتسارع والذي فرضه نسق التّطوّر التّقني ، ونسق العولمة بصفة عامّة .
ومع أنّ إعادة التّأمين كانت معروفة منذ مدّة طويلة ، إلّا أنّ هذا النّشاط لم يزدهر إلى في العقود الأخرية من القرن المنصرم ، أي في ثمانينات و خصوصا تسعينات القرن العشرين .
ذلك أنّ إعادة التّأمين تمكّن من التّخفيف من العواقب النّاجمة عن حادثة فادحة وذلك بتحميل عبئ التّعويض على شركتين ، أو حتى على شركات متعدّدة .
وقد تخصصّت بعض الشّركات في هذا النّشاط دون سواء ، اي في إعادة التّأمين فحسب ، أو بعبارة أخرى ، في تأمين المؤمّنين .
تدخّل الدّولة :
بسبب التّقلّبات الإجتماعيّة المتعدّدة، أيقنت الدّولة في ألمانيا أنّ عليها التّدخل للتّقنين و لفرض قيود على نشاط شركات التّأمين . ولذلك فقد إنبثقت صيغ قانونيّة جديدة في ألمانيا في مجال التّأمين ، تقنّن دور شركات التّأمين ونشاطها ، ومنها التّأمين على المسؤولية المدنيّة بالنّسبة للمركبات ذات المحرّك .
وقد ذهبت الدّولة إلى أبعد من ذلك حين خلقت ، ما يعرف اليوم بالتّغطية الإجتماعيّة أو التّأمين الإجتماعي ، عبر إنشاء مؤسسّات و صيغ قانونيّة تمكّن من توفير ضمانات العيش الكريم لمجموع السّكّان الذين يعيشون ضروفا إجتماعية صعبة - تعليم ، صحّة ، تقاعد ، سكن ، إلخ ...-
وترجع المبادرة الأولى في هذا المجال ، إلى بسمارك ، الّذي أحدث في العام 1883 ، تأمينا إجباريا على المرض ، ثمّ جاءت تغطية الحوادث سنة بعد ذلك ، وتلتها تغطية كبار السّن أو ما يعرف اليوم بمنحة التّقاعد في العالم 1889 .
وقد إنشغلت الدّولة في إنجلترا كذلك منذ سنة 1897 بالعقود الجماعيّة ، والّتي قام البرلمان سنة 1911 بتجميعها في عقد التّأمين الوطني .
وفي الأخير عرفت السّنوات الّتي تلت الحرب العالميّة الثّانية تعميم الضّمان الإجتماعي .
: لمزيد من المعلومات |
---|
|
0 تعليقات:
إرسال تعليق