6/11/2015

التأمين و إعادة التأمين

يقول المثل ، ''لا تضع البيض كلّه في نفس السّلّة'.

ومنذ إزدهار الملاحة البحريّة خاصة بعد الإكتشافات الجغرافيّة الكبرى،حلّت السّفن البحريّة محلّ السّلّة التي يتحدّث عنها المثل الشّعبيّ.
ذلك أنّ فكرة التّأمين في مجال التّجارة والإقتصاد عموما ، إنطلقت من عالم البحر . 


مقامرة بحريّة : 


في القرن الثاني عشر ، وبعد الرّكود الكبير الذي لحق إنهيار الإمبراطورية الرومانية ، والذي عقبه إنتشار للغزوات الهمجيّة ووللفوضى في أوروبا ، بدأت الملاحة البحريّة تسترجع سالف ناشطها من جديد . 
وقد فتح النّقل البحريّ آنذاك المجال لتقريب المسافات ولتحقيق أرباح كبرى للتّجّار الكبار . بيد أنّ مخاطر عديدة كانت تحوم حول السّفن ، سواء طبيعية كالعواصف ، أو بشريّة ، كسطو القراصنة . وبالتالي ، فإنّ النّقل البحري كان يمكن أن يسببّ من ناحية أخرى الإفلاس التّام للتّاجر . 
لهذا السّبب ، عمل أغلب التّجّار على توزيع السّلع على عدّة سفن ، لا تنطلق في نفس الوقت و لا من نفس الميناء ، حتّى يتمكّنوا من تقليص الخسارة ، إذا حدث أيّ طارئ ، عملا بالمثل الشّعبي القديم . 

لقد شكّل هذا الإجراء ، الطّريقة البدائيّة للتّأمين ، ولبدائيتها ، فإنها لم تكم بالطّبع كافية لدرء الأخطار . ولهذا إنتشر اللجوء إلى الإقتراض البحريّ : بمعنى أنّ التّاجر يقترض مبلغا ماليّا بنسبة فائدة مرتفعة -من 25 إلى 30 بالمائة - ويلتزم بالتّسديد إذا ما وصلت حمولته سالمة إلى المرسى . 
إلّا أنّه حدث وإن حرّم بابا الفاتيكان ممارسة الرّبا و الإقتراض بالفائدة ، فكان هذا التّحريم عائقا أمام تنمية التّجارة الدّوليّة ، خاصّة مع الثّقل الإقتصاديّ الّذي كانت تشكّله البلدان الأوروبيّة الكاثلوكية آنذاك . 

ومع ذلك فقد ساهم هذا التّحريم ، في تسريع ظهور التّأمين بصفته وسيلة لتلافي هذا العائق دون معصية أمر التّحريم .
إذ أصبح التّاجر عوض أن يقترض المبلغ المؤمّن عليه ، لا يحصل على هذا المبلغ إلّا عند حصول مكروه . أمّا عند التّوقيع على العقد ، فلم يكن التّاجر مطالبا بأن يدفع سوى مبلغا بسيطا من المال ، مقابل التّمتع بخدمة التأمين ، سمّي هذا المبلغ بقسط التّأمين

قرنان من الزّمن للوصول إلى وثيقة التّأمين : 


إنّ تحوّل القرض عالي الفائدة ، إلى وثيقة تأمين ، لم يتمّ ببساطة كما يظنّ البعض . 
ذلك أنّ هذا قد تطلّب ما يقارب قرنين من الزّمان : إي بالضّبط إلى حدود العالم 1385 ، وهو تاريخ التّوقيع على أوّل وثيقة تأمين حقيقية ، بمكتب أحد الموثقين ، بمدينة جنوة الإيطالية . 

ويرى بعض المؤرّخين أنّ اصل هذه الضمانات ، يعود في حقيقة الأمر إلى الفينيقيين و الإغريق . ويمكن إعتبار الفينيقيين روّادا في هذا المجال ، خاصّة أنّهم كانوا يشتركون مع سكّان جنوة خلال القرن الخامس عشر ، في كون ثروتهم موجودة في البحر وليس على اليابسة ، نتيجة لأهميّة نشاطاتهم البحريّة وتوسّعها . 

وبما أنّ مركز ثقل التّجارة الدّوليّة قد إنتقل تدريجيّا من جنوب أوروبا نحو شمالها ، فإنّ الهولنديين أعطوا دفعة خارقة لأنظمة التّأمين.
بل أنّ إزدهار نظام التّأمين والذّي شجّع التّجارة البحريّة ، كان من العوامل التي جعلت من هولندا في القرن الخامس عشر ، أي في القرن الموالي ، أغنى منطقة في أوروبا ، وهذا قبل أن تتنازل عن هذه المرتبة لصالح الإنجليز . 

فجر شركات التّأمين الكبرى : 


تجدر الإشارة إلى أنّ الوثائق الأولى للتّأمين في الحياة ، وجدت في مدينة أنفير (و تعرف أيضا بأنتويرب) - في بلجيكيا حاليا إلّا أنها تقع تاريخيا ضمن الأراضي المنخفضة -  . 
وهي وثائق تؤمّن الشّخص بمفرده خلال فترة سفره . وبالتالي كانت تشكّل مراهنة حقيقيّة على وفاته . 

هكذا كان التّأمين بادئ الأمر ، قضيّة فرديّة تتعلّق بتاجر و سلعه ، أو بشخص بمفرده . بيد أنّ التّوسّع الإستعماريّ والبحريّ الّذي شهده القرن التّاسع عشر ، وكذلك إزدهار الرّأسماليّة ، قد أدّيا إلى تاسيس شركات لإتّقاء المخاطر الّتي ما انفكّت تتزايد . 

ففي العام 1602 ، تمّ إنشاء أوّل شركة مجهولة الإسم ، وهي الشّركة الهولنديّة للهند الغربيّة . وفي العام 1720 ، تمّ تأسيس شركة تأمين لندن ، والشّركة الملكيّة للصّرف و التّأمين ببريطانيا ، وهما شركتان كانت لهما في البداية صبغة بحريّة ، ولكنّهما سرعان ما أن قامتا بمزاولة التأمين عن الحريق ، و عن الحياة . 

وبعد أقلّ من 100 سنة ، تمّ تعداد 38 شركة مجهولة الإسم من هذا النّوع في هامبورغ. مع العلم أنّ المؤّم الفرديّ كان قد إختفى نهائيّا من ذلك الوقت . 

تأمين على المؤمّن : 


يعتبر القرن التّاسع عشر عن حقّ ''العصر الذّهبي للتأمين'' . فقد فتح الإزدهار الإقتصاديّ الباهر أمام المؤمنين مجال عمل غير محدود نتيجة للإزدهار الكبير للملاحة البحريّة الذي وقع إثر فتح المستعمرين لأسواق جديدة لترويج مضاعتهم ، في البلدان المستعمرة . 
وكانت أبرز مجالات التّأمين ، التأمين على الملاحة البحريّة ، والتّأمين على الحريق ، و التّأمين على الحياة

ولكن سرعان ما انفتحت مجالات عمل جديدة لشركات التّأمين ، إنضافت إلى ''المجالات العريقة'' التي ذكرناها ، إذ إنبثق التأمين على حوادث السّير عقب النّموّ الكبير الذي عرفه النّقل البرّيّ . في حين جاء التّأمين على حوادث الشّغل عقب إنشاء المصانع الكبرى ، واساسا إثر تنامي النّشاط النّقابي و الحركات العمّاليّة . 

وإذا كان التّقدّم التّقنيّ قد ساعد على إنتشار الرّفاه بصفة عامّة ، فإنّه قد ساهم في خلق مخاطر جديدة من الجهة المقابلة . 
وهي ملاحظة تتأكّد صحّتها في عصر الطّائرات العملاقة ، وناقلات النّفط الكبرى ، ومحطّات توليد الطّاقة النوويّة . 

وهكذا أدركت شركات التّأمين بسرعة ، أنّ عليها لمواجهة تفاقم الأخطار و إرتفاع إمكانية حصولها ، أن توسّع الأسس الّتي تقوم عليها . 
ومنذ ذلك الحين ، أخذت سوق التّأمين صبغة دوليّة . فقد إندمجت بعض الشّركات الوطنيّة مع بعضها ، وفتحت فروعا في بلدان متعدّدة لتغطية تفاقم الأخطار و تعدّدها المتسارع والذي فرضه نسق التّطوّر التّقني ، ونسق العولمة بصفة عامّة . 

ومع أنّ إعادة التّأمين كانت معروفة منذ مدّة طويلة ، إلّا أنّ هذا النّشاط لم يزدهر إلى في العقود الأخرية من القرن المنصرم ، أي في ثمانينات و خصوصا تسعينات القرن العشرين . 
ذلك أنّ إعادة التّأمين تمكّن من التّخفيف من العواقب النّاجمة عن حادثة فادحة وذلك بتحميل عبئ التّعويض على شركتين ، أو حتى على شركات متعدّدة . 
وقد تخصصّت بعض الشّركات في هذا النّشاط دون سواء ، اي في إعادة التّأمين فحسب ، أو بعبارة أخرى ، في تأمين المؤمّنين . 

تدخّل الدّولة : 


بسبب التّقلّبات الإجتماعيّة  المتعدّدة، أيقنت الدّولة في ألمانيا أنّ عليها التّدخل للتّقنين و لفرض قيود على نشاط شركات التّأمين . ولذلك فقد إنبثقت صيغ قانونيّة جديدة في ألمانيا في مجال التّأمين ، تقنّن دور شركات التّأمين ونشاطها ، ومنها التّأمين على المسؤولية المدنيّة بالنّسبة للمركبات ذات المحرّك

وقد ذهبت الدّولة إلى أبعد من ذلك حين خلقت ، ما يعرف اليوم بالتّغطية الإجتماعيّة أو التّأمين الإجتماعي ، عبر إنشاء مؤسسّات و صيغ قانونيّة تمكّن من توفير ضمانات العيش الكريم لمجموع السّكّان الذين يعيشون ضروفا إجتماعية صعبة - تعليم ، صحّة ، تقاعد ، سكن  ، إلخ ...-
وترجع المبادرة الأولى في هذا المجال ، إلى بسمارك ، الّذي أحدث في العام 1883 ، تأمينا إجباريا على المرض ، ثمّ جاءت تغطية الحوادث سنة بعد ذلك ، وتلتها تغطية كبار السّن أو ما يعرف اليوم بمنحة التّقاعد في العالم 1889 . 

وقد إنشغلت الدّولة في إنجلترا كذلك منذ سنة 1897 بالعقود الجماعيّة ، والّتي قام البرلمان سنة 1911 بتجميعها في عقد التّأمين الوطني . 
وفي الأخير عرفت السّنوات الّتي تلت الحرب العالميّة الثّانية تعميم الضّمان الإجتماعي .  


: لمزيد من المعلومات

هل أعجبك المقال ؟

0 تعليقات: