5/20/2015

الغشّ

يعتبر إعطاء تعريف لمفهوم الغش أمرا صعبا من حيث تغيّر هذا المفهوم بإستمرار ، مع توالي الأزمنة .

في الواقع ، لا يمكن تعريف الغشّ إلّا بناء على مجموعة من الضّوابط والمعايير المحدّدة قانونيّا ، والّتي قد يتمّ تفاديها أو التّحايل عليها بشكل مقصود . وبهذا المعنى ، يمثّل الغشّ أسلوبا واعيا و غير مشروع . وبالطّبع فإنّ هناك أشكالا عديدة من التّحايل لا تقع تحت طائلة القانون
وقد إضطرّت المجتمعات ، على مرّ العصور ، إلى إيجاد الطّرق الملائمة للوقاية من أعمال الغشّ ، ولمعاقبة ممارسيه . وذلك بهدف التّصدّي للعواقب الوخيمة التي تنجم عنه ، على مستوى المجتمع بأكمله . وبطبيعة الحال فإنّ سبل محاربة الغشّ تختلف من عصر إلى آخر ، و من جمتمع إلى غيره .

وهكذا نلاحظ أنّ الأنظمة الشّيوعيّة كانت تعتبر أنّ أخطر أنواع المخالفات هي تلك الّتي تنصبّ على الممتلكات الجماعيّة . وبالتّالي فإنّ الجرائم الإقتصاديّة كانت توجب أقسى العقوبات ضدّ مرتكبيها ، في هذه البلدان .
في حين نرى أنّ الأنظمة الرّأسماليّة لا تتهاون إطلاقا مع أعمال الغش الّتي تسيئ إلى الملكيّة الخاصّة .

لمحة تاريخيّة : 


لم يخل عصر من العصور من الأحكام القانونيّة الّتي تسعى إلى محاربة الغش ، وإلى معاقبة ممارسيه . فقد قام الرّومان بسنّ قوانين متطوّرة جدّا في هذا السّياق . وهكذا فإنّ أيّ تعاقد ، كيفما كانت طبيعته ، بين شخصين أو عدّة أشخاص ، كان يلغى على الفور ، إذا ما تبيّن أنّه قائم على الغشّ أو على التّحايل .
وقد يكون هذا الإلغاء مقرونا بغرامة ، أو بتعويضات ماديّة ، يحصل عليها ضحايا التّحايل . أمّا العقوبات الجنائيّة ، الّتي كان ينصّ عليها القانون الرّومانيّ ، فقد كانت تتراوح ما بين الغرامة و الإعدام ، مرورا بمختلف العقوبات البدنيّة .

وخلال العصور الوسطى ، كانت هناك قوانين و أحكام صارمة ذات إرتباط وثيق بالهيئات الحرفيّة . وكثيرا ما كان يتمّ اللّجوء إلى القصاص ، الذي يقضي بأن يخضع الجانح إلى مثل ما خضعت إليه ضحيّته .

ومن أهمّ المحاولات الهادفة إلى توحيد مختلف التّشريعات ، نذكر مدوّنة نابوليون ، في أوروبا ، والّتي كان لها التّأثير الواضح على معظم البلدان الغربيّة ، وخصوصا منها اللّاتينيّة .
ومنذ ذلك الحين ، صدرت مراسيم و قوانين كان أغلبها مع ذلك مقصورا على أنواع محدّدة من الجنح .

وكان ينبغي إنتظار القرن العشرين ، حتّى ينجح مجهود التّعميم الذي يسمح بتضمين أكبر عدد ممكن من الخروقات ضمن إطار شامل من الأحكام القانونيّة .

أصناف مختلفة من الغش : 


هناط طرق متنوّعة لتصنيف أنواع الغش . فقد ينبني التّصنيف على نوعية الضّحايا ، أو على خصائص الجناة .
كما أنه مكن أن ينبني على الوسائل الّتي تمّ اللّجوء إليها كالنّصب ، والتّدليس ، أو خيانة الأمانة وما إلى ذلك .
وفي حالات أخرى ، يتمّ تصنيف أنواع الغشّ بناء على الممتلكات المستهدفة : تزوير السّندات ، تزوير العملة ، عمليات الإبتزاز ، إلى غير ذلك من وسائل الغش و أنواعه .

قوانين صارمة : 


يكون هناك تظلّم على الصّعيد المدنيّ عندما يحاول شخص ما ، بوسيلة غير مشروعة ، أن يحثّ الغير على إبرام عقد قانونيّ . ويكون الجزاء عادة هو ، إلغاء العقد ، و/ أو منح تعويض للّضحية . أمّا على الصّعيد الجنائيّ ، والذّي تكون فيه الدّعاوي ، بطبيعة الحال مقرونة بدعاوي مدنيّة ، فإنّ هناك عددا كبيرا من أنواع العقوبات .

وبخصوص النّصب ، فإنّه قد يكون متعلّقا بطبيعة شيئ ما ، أو بخاصيّة من خصائصه . مثل تقديم لوحة فنيّة مزيّفة على أنّها اصليّة. وهو يشكّل منبعا لا ينضب بالنّسبة لمؤلّفي الرّوايات الشّعبيّة الرّائجة . ومنه النّصب في الزّواج الذي يعني إعطاء وعد كاذب لإمرأة للزّواج منها ، وذلك قصد الإستفادة من أموالها .

أمّا جنح التّزوير ، فهي قد تتمثّل في إضفاء عدد من التّغيرات ، بكيفيّة مقصودة ، على الشّيئ المراد تزويره ، والذّي سيتمّ تقديمه على أنّه أصليّ . وتنصبّ جنح التّزوير هذه على العديد من الأشياء : لوحات فنيّة ، عملات ، وثائق ، وغرها من الأشياء الّتي تدرّ ارباحا.

وكثيرا ما تنظر المحاكم ، من حين لآخر ، في حالات تزوير عملات ، تتعلّق في الغالب بمبالغ خياليّة . الأمر الّذي دفع إلى اللّجوء إلى وسائل زجر تتجاوز إطار حدود البلد المعنيّ ، خصوصا عن طريق الإتفاقيّات الدّوليّة الهادفة إلى ضمان تعاون مختلف الأجهزة الوطنيّة للأمن .

أمّا في مجال الوثائق ، فقد أصبح تزوير الشّهادات ، والتّسميات الأصليّة ، وأشياء أخرى من هذا القبيل ، أمورا مألوفة . إذ تكفي كلمة ''أصليّ'' ، الّتي تكون ملصقة مثلا على علبة منتج مقلّد ، لتحقيق أرباح لا يستهان بها .

وأمام العدد المتزايد من أنواع الخداع الّتي يروح ضحيّتها الأفراد ، فإنّ السّلطات إضطرّت إلى سنّ قوانين صارمة ، تهدف إلى ضمان حماية وقائيّة وزجريّة على السّواء . ففيما يخصّ الوقاية ، تخضع المنتوجات الاساسيّة مثل الأغذية و الأدوية وما إليها ، لمراقبة صارمة في مختلف مراحل الصّنع ، ولذلك فإنّ المصالح المختصّة يمكنها أن تتأكّد من أنّ هذه المنتجات ، لا يمسّها أيّ نوع من أنواع الغشّ . وذلك حفاظا على صحّة المستهلكين .
ومن جهة أخرى ، فإنّ هناك تعليمات إضافيّة تقضي بضرورة الإشارة إلى مكوّنات مختلف السّلع والمواد على العلب . وتخضع أنواع الغشّ الّتي تتعلّق بعدم التّوافق بين التّعليمات والمحتوى الحقيقي للمنوتج ، إلى عقوبات شديدة الصّرامة ، بإعتبارها تشكّل خطرا مباشرا بصحّة الأفراد .

أمّا بالنّسبة إلى الزّجر ، فإنّ أوّل إجراء يتمّ تنفيذه هو المصادرة الّتي تنصّ على أن يسحب من السّوق كل منتوج من شأننه أن يلحق الضّرر بالمستهلك . وفي بعض الحالات يعطى الأمر بإتلاف البضائع المزيّفة ، ويكون ذلك مقرونا بعقوبة يمكن أن تمتدّ من الغرامة المالية ، إلى سلب الحرّيّة .

جنح خاصّة : 


في الحقل الجمركيّ - الدّيواني - تشمل تسمية الغشّ كل جريمة تسعى إلى التّملّص من التنظيمات و القوانين الجاري بها العمل .
سواء أتعلّق الأمر بالتّصريح الكاذب ، أم بالإستعمال المتعمّد لمعطيات مغلوطة ، أم بمحاولة تمرير بضائع محضورة ، أو بالتّهرّب من أداء المكوس الجبائيّة .
وقد أقامت جميع الدّول ، نظاما متشددا بشكل خاص لإتقاء الجنح الرّئيسيّة في هذا المجال .

أمّا في مجال العملة ، فيتضاعف الغش في الفترات الّتي تكون فيها تقلّبات أسعار الصّرف أكثر فائدة . وبخصوص عمليات الجزر ، فإنّ شرطة الجمارك -الشّرطة الدّيوانية - تتوفّر على سلطة التّصرّف داخل مجموع التّراب الوطنيّ ، والقيام بالتّحرّي إزاء عدد من الأشخاص الّذين يمكن أن تكون في حيازتهم عملة مغشوشة .

إنّ مختلف القوانين الجمركيّة - الدّيوانيّة - تنصّ بصفة عامّة على مصادر الأشياء المحجوزة .وفي بعض الحالات ، على إتلافها ، كما هو الشّأن بالنّسبة إلى العملات المزوّرة مثلا . بالإضافة إلى ذلك ، يحكم بغرامة ماليّة مترفعة جدّا ، يتمّ حسابها تناسبا مع القيمة موضوع المنازعة .

ونشير من جهة أخرى ، إلى أنّ السّلطات القضائيّة والشّرطة المدنيّة ، تتعاون تعاونا وثيق ما مصالح الجمارك - الدّيوانة - . وكثيرا ما يتمّ القبض على المشبوه فيهم عند عبورهم الحدود.
أمّا مختلف المتواطئين ، فإنّهم يدانون بكونهم متضامنين مع الفاعل الأصليّ ، كما هو الشّأن بالنّسبة إلى أغلب جرائم و جنح الحقّ العام . غير أنّ عقوبتهم ، حسب الشّروط المنصوص عليها في القانون ، يمكن أن تكون مخففّة أو مشدّدة . ويتعلّق الأمر بالخصوص بأولئك الّذين يحوزون بطريقة غير مشروعة ، وهم على علم بذلك ، على بضاعة تمّ الحصول عليها بالغشّ ، أو حتّى على بضاعة مقلّدة ، في بعض الدّول المتقدّمة .

وأنواع الغشّ الجبائيّ ربّما هي أكثر أنواع الغشّ شيوعا . وذلك لأنّ أغلبيّة النّاس ، لا ترى في مخيّلتها ، أن التّهرّب الجبائيّ ، نوع من أنواع الغشّ . فالمعلومات المقدّمة إلى السّلطات المختصّة حول المداخيل ، تكون إمّا مبتورة ، أو مشوّهة . وفي هذا المجال ايضا ، تتوفّر المصالح العموميّة على إختصاصات واسعة ، تسمح لها بكشف الحقيقة.
وحينما يفتضح أمر الجاني ، في هذه الحالة ، يكون مجبرا على أداء مجموع المبلغ الّذي كان سيؤدّيه على اساس التّصريح الصّادق على ممتكلاته و مداخيله ، بالإضافة إلى غرامة ، تكون في الغالب مرتفعة جدّا .

وتوجد جنح أخرى ، مثل الغشّ الإنتخابيّ ، الذي يسقط تحت طائلة القانون العام . أمّا خيانة الأمانة ، فيقوم بها خص خوّلت له بعض الصّلاحيات ، فحصل بواسطتها و بطريقة غير مشروعة ، على مقدار من المال بطريقة غير شرعيّة . ومع ذلك تجدر الإشارة ، إلى أنّ نظام المحاكم ، في البلدان الليبراليّة على الأقل - اغلب بلدان العالم حاليّا - تكون حذرة نسبيّا في هذا المجال ، الّذي يتعذّر فيه الحصوص على أدلّة و براهين في الغالب .
وبطبيعة الحال فإنّ هذا النّوع من الحذر ، لم يكن المهيمن في كافة الأحيان . إذ يعرف الجميع أنّ المسؤولين عن القضاء لم يتردّدوا - خلال بعض الفترات التّاريخيّة المضطربة - في محاكمة النّوايا عوض محاكمة الأفعال الثّابتة الوقوع .

اين ومتى يبدأ الغشّ إذن ؟ إنّه سؤال تصعب الإجابة عنه ، خاصّة و أنّه يكتسي طابعا سياسيا في أغلب الاحيان . ثمّ أنّها مسألة ضمير أيضا ، بمعنى أنّ للنّسبيّة مكان في تحديد مفهوم الغشّ . وبالتّالي فيمكن أن تكون المسألة مسألة إختلاف في وجهات النّظر .
ذلك ما تمّت معاينته مثلا ، خلال الحرب العالميّة الثّانية ، في البلدان الّتي كانت ترزخ تحت الإحتلال : أو لم تكن السّوق السّوداء تعتبر ، في تلك الأيّام ، في البلدان المذكورة ، بمثابة عمل وطني، يهدف إلى مضايقة المحتلّ والحيلولة دون حصوله على التّموين الضّروريّ ؟ ثمّ ، الم يكن عدد كبير من الأشخاص يعرّضون حياتهم للخطر في سبيل ذلك ؟


هل أعجبك المقال ؟

0 تعليقات: